الکتاب
«قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن یَبْعَثَ عَلَیْکُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِکُمْ أَوْمِن تَحْتِ أَرْجُلِکُمْ أَوْ یَلْبِسَکُمْ شِیَعًا وَیُذِیقَ بَعْضَکُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ کَیْفَ نُصَرِّفُ الْایَاتِ لَعَلَّهُمْ یَفْقَهُونَ».(1)
الحدیث
49.الإمام علیّ علیه السلام: اِحذَروا ما نَزَلَ بِالاُمَمِ قَبلَکُم مِنَ المَثُلاتِ(2) بِسوءِ الأَفعالِ وذَمیمِ الأَعمالِ، فَتَذَکَّروا فِی الخَیرِ وَالشَّرِّ أحوالَهُم، وَاحذَروا أن تَکونوا أمثالَهُم. فَإِذا تَفَکَّرتُم فی تَفاوُتِ حالَیهِم، فَالزَموا کُلَّ أمرٍ لَزِمَتِ العِزَّةُ بِهِ شَأنَهُم، وزاحَتِ الأَعداءُ لَهُ عَنهُم، ومُدَّتِ العافِیَةُ بِهِ عَلَیهِم، وَانقادَتِ النِّعمَةُ لَهُ مَعَهُم، ووَصَلَتِ الکَرامَةُ عَلَیهِ حَبلَهُم؛ مِنَ الاِجتِنابِ لِلفُرقَةِ، وَاللُّزومِ لِلاُلفَةِ، وَالتَّحاضِّ(3) عَلَیها وَالتَّواصی بِها، وَاجتَنِبوا کُلَّ أمرٍ کَسَرَ فِقرَتَهُم، وأوهَنَ مُنَّتَهُم؛ مِن تَضاغُنِ القُلوبِ، وتَشاحُنِ(4) الصُّدورِ، وتَدابُرِ النُّفوسِ، وتَخاذُلِ الأَیدی.
وتَدَبَّروا أحوالَ الماضینَ مِنَ المُؤمِنینَ قَبلَکُم، کَیفَ کانوا فی حالِ التَّمحیصِ وَالبَلاءِ، ألَم یَکونوا أثقَلَ الخَلائِقِ أعباءً، وأجَهَدَ العِبادِ بَلاءً، وأضیَقَ أهلِ الدُّنیا حالاً؟! اِتَّخَذَتهُمُ الفَراعِنَةُ عَبیدا، فَساموهُم سوءَ العَذابِ، وجَرَّعوهُمُ المُرارَ، فَلَم تَبرَحِ الحالُ بِهِم فی ذُلِّ الهَلَکَةِ وقَهرِ الغَلَبَةِ، لا یَجِدون حیلَةً فِی امتناعٍ، ولا سَبیلاً إلى دِفاعٍ.
حَتّى إذا رَأى اللّهُ سُبحانَهُ جِدَّ الصَّبرِ مِنهُم عَلَى الأَذى فی مَحَبَّتِهِ، وَالاِحتِمالَ لِلمَکروهِ مِن خَوفِهِ، جَعَلَ لَهُم مِن مَضایِقِ البَلاءِ فَرَجا، فَأَبدَلَهُمُ العِزَّ مَکانَ الذُّلِّ، وَالأَمنَ مَکانَ الخَوفِ، فَصاروا مُلوکا حُکّاما، وأئِمَّةً أعلاما، وقَد بَلَغَتِ الکَرامَةُ مِنَ اللّهِ لَهُم ما لَم تَذهَبِ الآمالُ إلَیهِ بِهِم.
فَانظُروا کَیفَ کانوا حَیثُ کانَتِ الأَملاءُ مُجتَمِعَةً، وَالأَهواءُ مُؤتَلِفَةً، وَالقُلوبُ مُعتَدِلَةً، وَالأَیدی مُتَرادِفَةً، وَالسُّیوفُ مُتناصِرَةً، وَالبَصائِرُ نافِذَةً، وَالعَزائِمُ واحِدَةً. ألَم یَکونوا أربابا فی أقطارِ الأَرَضینَ، ومُلوکا عَلى رِقابِ العالَمینَ؟! فَانظُروا إلى ما صاروا إلَیهِ فی آخِرِ اُمورِهِم، حینَ وَقَعَتِ الفُرقَةُ، وتَشَتَّتَتِ الاُلفَةُ، وَاختَلَفَتِ الکَلِمَةُ وَالأَفئِدَةُ، وتَشَعَّبوا مُختَلِفینَ، وتَفَرَّقوا مُتَحارِبینَ، قَد خَلَعَ اللّهُ عَنهُم لِباسَ کَرامَتِهِ، وسَلَبَهُم غَضارَةَ نِعمَتِهِ، وبَقِیَ قَصَصُ أخبارِهِم فیکُم عِبَرا لِلمُعتَبِرینَ.
فَاعتَبِروا بِحالِ وَلَدِ إسماعیلَ وبَنی إسحاقَ وبَنی إسرائیلَ علیهم السلام، فَما أشَدَّ اعتِدالَ الأَحوالِ، وأقرَبَ اشتِباهَ الأَمثالِ! تَأَمَّلوا أمرَهُم فی حالِ تَشَتُّتِهِم وتَفَرُّقِهِم، لَیالِیَ کانَتِ الأَکاسِرَةُ وَالقَیاصِرَةُ أربابا لَهُم، یَحتازونَهُم(5) عَن ریفِ الآفاقِ، وبَحرِ العِراقِ، وخُضرَةِ الدُّنیا، إلى مَنابِتِ الشّیحِ(6)، ومَهافِی الرّیحِ، ونَکَدِ المَعاشِ، فَتَرَکوهُم عالَةً مَساکینَ، إخوانَ دَبَرٍ ووَبَرٍ، أذَلَّ الاُمَمِ دارا، وأجَدَبَهُم قَرارا، لا یَأوونَ إلى جَناحِ دَعوَةٍ یَعتَصِمونَ بِها، ولا إلى ظِلِّ اُلفَةٍ یَعتَمِدونَ عَلى عِزِّها. فَالأَحوالُ مُضطَرِبَةٌ، وَالأَیدی مُختَلِفَةٌ، وَالکَثرَةُ مُتَفَرِّقَةٌ؛ فی بَلاءِ أزلٍ، وأطباقِ جَهلٍ، مِن بَناتٍ مَوؤودَةٍ، وأصنامٍ مَعبودَةٍ، وأرحامٍ مَقطوعَةٍ، وغاراتٍ مَشنونَةٍ.
فَانظُروا إلى مَواقِعِ نِعَمِ اللّهِ عَلَیهِم حینَ بَعَثَ إلَیهِم رَسولاً، فَعَقَدَ بِمِلَّتِهِ طاعَتَهُم، وجَمَعَ عَلى دَعوَتِهِ اُلفَتَهُم، کَیفَ نَشَرَتِ النِّعمَةُ عَلَیهِم جَناحَ کَرامَتِها، وأسالَت لَهُم جَداوِلَ نَعیمِها، وَالتَفَّتِ المِلَّةُ بِهِم فی عَوائِدِ بَرَکَتِها، فَأَصبَحوا فی نِعمَتِها غَرِقینَ، وفی خُضرَةِ عَیشِها فَکِهینَ. قَد تَرَبَّعَتِ الاُمورُ بِهِم فی ظِلِّ سُلطانٍ قاهِرٍ، وآوَتهُمُ الحالُ إلى کَنَفِ عِزٍّ غالِبٍ، وتَعَطَّفَتِ الاُمورُ عَلَیهِم فی ذُرى مُلکٍ ثابِتٍ، فَهُم حُکّامٌ عَلَى العالَمینَ، ومُلوکٌ فی أطرافِ الأَرَضینَ، یَملِکونَ الاُمورَ عَلى مَن کانَ یَملِکُها عَلَیهِم، ویُمضونَ الأَحکامَ فیمَن کانَ یُمضیها فیهِم! لا تُغمَزُ لَهُم قَناةٌ، ولا تُقرَعُ لَهُم صَفاةٌ(7)! (8)
1) الأنعام: 65.
2) المَثُلَة: العُقوبَة، والجمع المَثُلات (الصحاح: ج 5 ص 1816 «مثل»).
3) الحَضُّ: الحَثُّ على الشیء (النهایة: ج 1 ص 400 «حضض»).
4) الشَّحناءُ: الحِقد، العدواة (لسان العرب: ج 13 ص 234 «شحن»).
5) تَحوَّزَ: أی تنحّى (النهایة: ج 1 ص 460 «حوز»).
6) الشِّیحُ: نبت بالبادیة معروف (مجمع البحرین: ج 2 ص 997 «شیح»).
7) لا تُقرَع لهم صفاة: أی لا یَنالُهم أحد بسوء (النهایة: ج 3 ص 41 «صفا»).
8) نهج البلاغة: الخطبة 192، بحار الأنوار: ج 14 ص 472 ح 37.