الکتاب
(لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَیِّنَاتِ وَ أَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْکِتَابَ وَ الْمِیزَانَ لِیَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنزَلْنَا الْحَدِیدَ فِیهِ بَأْسٌ شَدِیدٌ وَ مَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِیَعْلَمَ اللَّهُ مَن یَنصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَیْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِىٌّ عَزِیزٌ). (1)
(لِکُلٍّ جَعَلْنَا مِنکُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَکُمْ اُمَّةً وَاحِدَةً وَلَکِن لِّیَبْلُوَکُمْ فِى مَا ءَاتَاکُمْ فَاسْتَبِقُواْ الْخَیْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُکُمْ جَمِیعًا فَیُنَبِّئُکُم بِمَا کُنتُمْ فِیهِ تَخْتَلِفُونَ). (2)
(أَحَسِبَ النَّاسُ أَن یُتْرَکُواْ أَن یَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا یُفْتَنُونَ- وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَیَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِینَ صَدَقُواْ وَ لَیَعْلَمَنَّ الْکَاذِبِینَ). (3)
الحدیث
13. مجمع البیان ـ فی قَولِهِ تَعالى: (قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن یَبْعَثَ عَلَیْکُمْ عَذَابًا مِّن فَوْقِکُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِکُمْ أَوْ یَلْبِسَکُمْ شِیَعًا…) (4) الآیَة ـ: فی تَفسیرِ الکَلبِیِّ: لَمّا نَزَلَت هذِهِ الآیَةُ قامَ النَّبِیُّ صلی الله علیه وآله فَتَوَضَّأَ وأسبَغَ وُضوءَهُ، ثُمَّ قامَ وصَلّى فَأَحسَنَ صَلاتَهُ، ثُمَّ سَأَلَ اللّهَ سُبحانَهُ ألّا یَبعَثَ عَلى اُمَّتِهِ عَذاباً مِن فَوقِهِم ولا مِن تَحتِ أرجُلِهِم، ولا یُلبِسَهُم شِیَعاً، ولا یُذیقَ بَعضَهُم بَأسَ بَعضٍ.
فَنَزَلَ جَبرَئیلُ علیه السلام فَقالَ: یا مُحَمَّدُ، إنَّ اللّهَ تَعالى سَمِعَ مَقالَتَکَ، وإنَّهُ قَد أجارَهُم مِن خَصلَتَینِ ولَم یُجِرهُم مِن خَصلَتَینِ؛ أجارَهُم مِن أن یَبعَثَ عَلَیهِم عَذاباً مِن فَوقِهِم أو مِن تَحتِ أرجُلِهِم، ولَم یُجِرهُم مِنَ الخَصلَتَینِ الاُخرَیَینِ.
فقال صلی الله علیه وآله: یا جَبرَئیلُ، ما بَقاءُ اُمَّتی مَعَ قَتلِ بَعضِهِم بَعضاً؟ فَقامَ وعادَ إلَى الدُّعاءِ، فَنَزَلَ: (الم- أَحَسِبَ النَّاسُ أَن یُتْرَکُواْ أَن یَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا یُفْتَنُونَ) الآیَتَینِ، فَقالَ: لابُدَّ مِن فِتنَةٍ تُبتَلى بِهَا الاُمَّةُ بَعدَ نَبِیِّها، لِیَتَبَیَّنَ الصّادِقُ مِنَ الکاذِبِ، لِأَنَّ الوَحیَ انقَطَعَ، وبَقِیَ السَّیفُ وَافتِراقُ الکَلِمَةِ إلى یَومِ القِیامَةِ. (5)
14. الإمام علیّ علیه السلام ـ فی خُطبَةٍ لَهُ ـ: لَو أرادَ اللّهُ جَلَّ ثَناؤُهُ بِأَنبِیائِهِ حَیثُ بَعَثَهُم أن یَفتَحَ لَهُم کُنوزَ الذِّهبانِ، ومَعادِنَ العِقیانِ (6)، ومَغارِسَ الجِنانِ، وأن یَحشُرَ طَیرَ السَّماءِ ووَحشَ الأَرضِ مَعَهُم لَفَعَلَ، ولَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلاءُ، وبَطَلَ الجَزاءُ، وَاضمَحَلَّتِ الأَنباءُ، ولَما وَجَبَ لِلقائِلینَ اُجورُ المُبتَلَینَ، ولا لَحِقَ المُؤمِنینَ ثَوابَ المُحسِنینَ، ولا لَزِمَتِ الأَسماءُ أهالِیَها عَلى مَعنىً مُبینٍ (7)، ولِذلِکَ لَو أنزَلَ اللّهُ مِنَ السَّماءِ آیَةً فَظَلَّت أعناقُهُم لَها خاضِعینَ، ولَو فَعَلَ لَسَقَطَ البَلوى عَنِ النّاسِ أجمَعینَ، ولکِنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ جَعَلَ رُسُلَهُ اُولی قُوَّةٍ فی عَزائِمِ نِیّاتِهِم، وضَعَفَةٍ فیما تَرَى الأَعیُنُ مِن حالاتِهِم؛ مِن قَناعَةٍ تَملَأُ القُلوبَ وَالعُیونَ غَناؤُهُ، وخَصاصَةٍ (8) تَملَأُ الأَسماعَ وَالأَبصارَ أذاؤُهُ.
ولَو کانَتِ الأَنبِیاءُ أهلَ قُوَّةٍ لا تُرامُ وعِزَّةٍ لا تُضامُ، ومُلکٍ یُمَدُّ نَحوَهُ أعناقُ الرِّجالِ ویُشَدُّ إلَیهِ عُقَدُ الرِّحالِ، لَکانَ أهونَ عَلَى الخَلقِ فِی الاِختِبارِ، وأبعَدَ لَهُم فِی الاِستِکبارِ، ولَآمَنوا عَن رَهبَةٍ قاهِرَةٍ لَهُم أو رَغبَةٍ مَائِلَةٍ بِهِم، فَکانَتِ النِّیّاتُ مُشتَرکَةً والحَسَناتُ مُقتَسَمَةً، ولکِنَّ اللّهَ أرادَ أن یَکونَ الاِتِّباعُ لِرُسُلِهِ، وَالتَّصدیقُ بِکُتُبِهِ، وَالخُشوعُ لِوَجهِهِ، وَالاِستِکانَةُ لِأَمرِهِ، وَالاِستِسلامُ لِطاعَتِهِ، اُموراً لَهُ خاصَّةً لا تَشوبُها مِن غَیرِها شائِبةٌ، وکُلَّما کانَتِ البَلوى وَالاِختِبارُ أعظَمَ کانَتِ المَثوبَةُ وَالجَزاءُ أجزَلَ.
ألا تَرَونَ أنَّ اللّهَ جَلَّ ثَناؤُهُ اختَبَرَ الأَوَّلینَ مِن لَدُن آدَمَ إلَى الآخِرینَ مِن هذَا العالَمِ، بِأَحجارٍ لا تَضُرُّ ولا تَنفَعُ، ولا تُبصِرُ ولا تَسمَعُ، فَجَعَلَها بَیتَهُ الحَرامَ الَّذی جَعَلَهُ لِلنّاسِ قِیاماً، ثُمَّ وَضَعَهُ بِأَوعَرِ بِقاعِ الأَرضِ حَجَراً، وأقَلِّ نَتائِقِ (9) الدُّنیا مَدَراً، وأضیَقِ بُطونِ الأَودِیَةِ مَعاشاً، وأغلَظِ مَحالِّ المُسلِمینَ مِیاهاً، بَینَ جِبالٍ خَشِنَةٍ، ورِمالٍ دَمِثَةٍ (10)، وعُیونٍ وَشِلَةٍ (11)، وقُرىً مُنقَطِعَةٍ، وأثَرٍ مِن مَواضِعِ قَطرِ السَّماءِ داثِرٍ، لَیس یَزکو بِهِ خُفٌّ ولا ظِلفٌ ولا حافِرٌ.
ثُمَّ أمَرَ آدَمَ ووُلدَهُ أن یَثنوا أعطافَهُم نَحوَهُ، فَصارَ مَثابَةً (12) لِمُنتَجَعِ (13) أسفارِهِم، وغایَةً لِمَلقى رِحالِهِم، تَهوی إلَیهِ ثِمارُ الأَفئِدَةِ مِن مَفاوِزِ قِفارٍ مُتَّصِلَةٍ، وجَزائِرِ بِحارٍ مُنقَطِعَةٍ، ومَهاوی فِجاجٍ عَمیقَةٍ، حَتّى یَهُزّوا مَناکِبَهُم ذُلُلاً، یُهَلِّلونَ للِّهِ حَولَهُ، ویَرمُلونَ (14) عَلى أقدامِهِم شُعثاً غُبراً لَهُ، قَد نَبَذُوا القُنُعَ وَالسَّرابیلَ وَراءَ ظُهورِهِم، وحَسَروا بِالشُّعورِ حَلقاً عَن رُؤوسِهِمُ، ابتِلاءً عَظیماً، وَاختِباراً کَبیراً، وَامتِحاناً شَدیداً، وتَمحیصاً بَلیغاً، وقُنوتاً مُبیناً، جَعَلَهُ اللّهُ سَبَباً لِرَحمَتِهِ، و وُصلَةً ووَسیلَةً إلى جَنَّتِهِ، وعِلَّةً لِمَغفِرَتِهِ، وَابتِلاءً لِلخَلقِ بِرَحمَتِهِ.
ولَو کانَ اللّهُ تَبارَکَ و تَعالى وَضَعَ بَیتَهُ الحَرامَ ومَشاعِرَهُ العِظامَ بَینَ جَنّاتٍ وأنهارٍ، وسَهلٍ وقَرارٍ، جَمَّ الأَشجارِ، دانِیَ الثِّمارِ، مُلتَفَّ النَّباتِ، مُتَّصِلَ القُرى، مِن بُرَّةٍ (15) سَمراءَ، ورَوضَةٍ خَضراءَ، وأریافٍ مُحدِقَةٍ، وعِراصٍ (16) مُغدِقَةٍ، وزُروعٍ ناضِرَةٍ، وطُرُقٍ عامِرَةٍ، وحَدائِقَ کَثیرَةٍ، لَکانَ قَد صَغُرَ الجَزاءُ عَلى حَسَبِ ضَعفِ البَلاءِ، ثُمَّ لَو کانَتِ الأَساسُ المَحمولُ عَلیها وَالأَحجارُ المَرفوعُ بِها، بَینَ زُمُرُّدَةٍ خَضراءَ ویاقوتَةٍ حَمراءَ ونورٍ وضِیاءٍ، لَخَفَّفَ ذالِکَ مُصارَعَةَ الشَّکِّ فِی الصُّدورِ، ولَوَضَعَ مُجاهَدَةَ إبلیسَ عَنِ القُلوبِ، ولَنَفى مُعتَلِجَ الرَّیبِ مِنَ النّاسِ، ولکِنَّ اللّهَ عز و جل یَختَبِرُ عَبیدَهُ بِأَنواعِ الشَّدائِدِ، ویَتَعَبَّدُهُم بِأَلوانِ المَجاهِدِ، ویَبتَلیهِم بِضُروبِ المَکارِهِ؛ إخراجاً لِلتَّکَبُّرِ مِن قُلوبِهِم، وإسکاناً لِلتَّذَلُّلِ فی أنفُسِهم، ولِیَجعَلَ ذلِکَ أبواباً فُتُحاً إلى فَضلِهِ، وأسباباً ذُلُلاً لِعَفوِهِ وفِتنَتِهِ، کَما قالَ: (الم- أَحَسِبَ النَّاسُ أَن یُتْرَکُواْ أَن یَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا یُفْتَنُونَ- وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِینَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَیَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِینَ صَدَقُواْ وَ لَیَعْلَمَنَّ الْکَاذِبِینَ). (17)
15. الکافی عن معمّر بن خلّاد: سَمِعتُ أبَا الحَسَنِ علیه السلام یَقولُ: (الم- أَحَسِبَ النَّاسُ أَن یُتْرَکُواْ أَن یَقُولُواْ ءَامَنَّا وَ هُمْ لَا یُفْتَنُونَ)، ثُمَّ قالَ لی: مَا الفِتنَةُ؟ قُلتُ: جُعِلتُ فِداکَ، الَّذی عِندَنا: الفِتنَةُ فِی الدّینِ.
فقال: یُفتَنونَ کَما یُفتَنُ الذَّهَبُ (18)، ثُمَّ قالَ: یُخلَصونَ کَما یُخلَصُ الذَّهَبُ. (19)
راجع: ص 228 (الامّة / الفصل العاشر: مستقبل اُمّة محمّد صلی الله علیه وآله فی الدنیا / ما یقع فیها من الفتن).
1) الحدید: 25.
2) المائدة: 48.
3) العنکبوت: 2و 3.
4) الأنعام: 65.
5) مجمع البیان: ج 4 ص 487، بحارالأنوار: ج 9 ص 88؛ تفسیر القرطبی: ج 7 ص 10 نحوه.
6) العِقیان من الذهب: الخالص (الصحاح: ج 6 ص 2433 «عقا»).
7) قال المجلسی قدس سره: «ولا لزمت الأسماء» کالمؤمن والمتّقی والزاهد والعابد (مرآة العقول: ج 17 ص 24). وفی نهج البلاغة: «ولا لزمت الأسماء معانیها» ولیس فیه: «على معنىً مبین».
8) الخَصاصة: الفَقر والحاجَة (المصباح المنیر: ص 171 «خصص»).
9) النّتائِق: جمع نَتیقة، فعیلة بمعنى مفعولة؛ من النّتق: وهو أن تقلع الشیءَ فترفعه من مکانه لِترمی به، هذا هو الأصل، وأراد بها هاهنا البلاد؛ لِرَفع بنائها، وشهرتها فی موضعها (النهایة: ج 5 ص 13 «نتق»).
10) دَمِثَ المکانُ دَمَثاً: لانَ وسَهُلَ (النهایة: ج 2 ص 132 «دمث»).
11) الوَشَل: الماء القلیل (النهایة: ج 5 ص 189 «وشل»).
12) المَثابَةُ: المجتمعُ والمنزل، لأنّ أهله یثوبون إلیه أی یرجعون (لسان العرب: ج 1 ص 245 «ثوب»).
13) المُنتَجَعُ: المَنزِلُ فی طلب الکلأ (لسان العرب: ج 8 ص 347 «نجع»).
14) رَمَلَ: إذا أسرع فی المشی وهزّ منکبیه (النهایة: ج 2 ص 265 «رمل»).
15) البُرّ: الحنطة (لسان العرب: ج 4 ص 55 «برر»).
16) العَرصَة: کلّ بقعةٍ بین الدور واسعة لیس فیها بناء. و تجمع عراصاً وعَرَصات (لسان العرب: ج 7 ص 52 «عرص»).
17) الکافی: ج 4 ص 198 ح 2، نهج البلاغة: الخطبة 192 نحوه، بحارالأنوار: ج 14 ص 469 ح 37.
18) فَتَنتُ الذهبَ والفضَّةَ: إذا أحرقته بالنار لیَبین الجیّد من الردیء (المصباح المنیر: ص 462 «فتن»).
19) الکافی: ج 1 ص 370 ح 4، الغیبة للنعمانی: ص 202 ح 2، بحارالأنوار: ج 5 ص 219 ح 14.